[“كتب” هي سلسلة تستضيف “جدلية” فيها الكتاب والمترجمين في حوار حول أعمالهم الجديدة، نرفقه بمقطع من الكتاب.]
الكتاب ”عنف الدكتاتورية“ المؤلف: ستيفان زفايغ، ترجمة فارس يواكيم. بيروت، دار الفرات، ٢٠١٣.
جدلية: كيف تبلورت فكرة ترجمة الكتاب، وما الذي قادك نحو الموضوع؟
فارس يواكيم: كنت أعرف ستيفان زفايغ روائياً صاحب أسلوب ممتع في السرد. وكنت أحرص على قراءة رواياته. ثم وقعت على كتاب من تأليفه لا علاقة له بالرواية. عنوان الكتاب "كاستيليو ضد كالفن ... أو ضمير ضد العنف". في الظاهر، كتاب يكثف الأضواء على مرحلة تاريخية وتحديداً الحقبة التي شهدت صعود كالفن، أحد أعمدة المذهب البروتستانتي. وفي الباطن، هو كتاب سياسي بامتياز. وفي الحالين، صاغه زفايغ بأسلوب أقرب إلى السرد الروائي.
وصرت كلما قرأت فصلاً، ترسخت قناعتي بأن التاريخ يعيد نفسه. وبأن ما يجري حالياً في العالم العربي، كانت له نظائر في زمن سابق، طبعاً مع اختلاف الظروف، لكنما الحقائق والعبر التي يستخلصها المرء هي ذاتها لم تتغير.
جدلية: ما هي الأفكار والاطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
فارس يواكيم: جاء جان كالفن الفرنسي إلى جنيف هرباً من القمع الوحشي الذي تفرضه الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا عبر محاكم التفتيش. بدأ حياته المهنية قسيساً وما لبث أن أصبح صاحب السلطة في جنيف ثم انتشرت الكالفنية في عموم سويسرا وفي دول في شمال أوروبا. الكتاب يشرح آليات الوصول إلى السلطة المطلقة بكل الوسائل، حتى غير المشروعة منها. وكان كاستيليو من الشباب الثائر على التقاليد البالية ويؤمن بضرورة الإصلاح، ومن هنا إعجابه بكالفن يوم كان الأخير مبشراً به. لكنه فوجيء أن "مصلح" الأمس حين أمسك بزمام السلطة تماماً، أصبح دكتاتوراً قمعياً لا يرحم، إلى حد إحراق معارض له!.. فتحول إلى إدانة هذه الدكتاتورية. لكن آلة الدولة القمعية تخنق المعارضة بلا هوادة.
موضوع الكتاب جعلني أقدم على ترجمته، ليكون في متناول القراء العرب، في الدول التي وصلت فيها الدكتاتورية الثيوقراطية إلى السلطة، وفي الدول الأخرى التي تستعد لاستقبالها. وحين نشرت الكتاب باللغة العربية جعلت عنوانه "عنف الدكتاتورية" وهو مطابق لمحتواه.
مقطع من كتاب ”عنف الدكتاتورية“ المؤلف ستيفان زفايغ ترجمة فارس يواكيم.
"البرغشة ضد الفيل" هذه العبارة التي دونها كاستيليو بخط يده في نسخة طبعة بازل من كتاب نضاله ضد كالفن، تبدو في البدء غريبة، بل وتجعلنا أقرب إلى الاعتقاد بأنها من المبالغات التي اعتاد عليها العلماء. لكن كلمات كاستيليو لم تحمل في مضمونها مبالغة أو تهكما. إذ أن ذلك الرجل الشجاع أراد بمقارنة قاطعة أن يوضح لصديقه أمرباخ كيف كان الأمر بالنسبة إليه في غاية الوضوح والمأسوية، وأي خصم هائل قد تحدى عندما اتهم كالفن علانية أنه بمكابرة متعصبة قتل إنسانا، وبالتالي اغتال حرية الضمير في حركة الإصلاح. وهو كان يدرك تماما منذ الساعات الأولى حين استلّ ريشته كرمح وخاض بها النزاع الخطير، كيف يغدو أعزل أي قتال عقلاني صرف ضد سلطة الدكتاتور العنيفة والمدججة بالسلاح، وبالتالي يضعف الأمل في سقوط الطاغية. إذ كيف يمكن لرجل بلا سلاح وبمفرده أن يقاتل كالفن ويهزمه، فيما وراءه يقف الآلاف، بل عشرات الآلاف، مضافا إليهم الآلة العسكرية المكوّنة لعنف الدولة. بفضل حرفية فائقة التنظيم نجح كالفن في تحويل مدينة بأسرها، بل ودولة بكاملها، بمواطنيها الذين كانوا من قبل أحرارا، إلى آلة ضخمة طوع يديه مهمتها أن تستأصل كل استقلالية وأن تصادر حرية التفكير لصالح عقيدة وحيدة، عقيدته. كل مصادر السلطة في المدينة والدولة خضع لسلطانه، الإدارات بكاملها والتراخيص كافة: مجلس المدينة، المجمع الديني، المحاكم والجامعة، الشؤون المالية والأخلاقية، القساوسة، المدارس، الشرطة، السجون، الكلمة المكتوبة والمحكية بل والمهموسة سرا. مذهب كالفن أصبح القانون. كلُّ منْ يجرؤ على إبداء أدنى اعتراض مصيره النفي أو عذاب السجن أو الحرق، وهي أحكام غير قابلة للنقاش كما في كل ديكتاتورية، ومن ثمّ تـُستخلص العبرة أنه في جنيف ثمة حقيقة وحيدة مسموح بها وأن كالفن نبيـّها. بل إن السلطة الرهيبة لذلك الرجل الرهيب تجاوزت أسوار المدينة إلى أبعد، فالمدن السويسرية الاتحادية رأت فيه أهم حليف سياسي، والبروتستانتية العالمية اختارت ذلك اللاهوتي المشرّع الفذ قائدا روحيا لها، والملوك والأمراء تسابقوا على كسب حظوة ذلك القائد الديني الذي بنى أقوى تنظيم للمسيحية في أوروبا إلى جانب الكنيسة الكاثوليكية. لم يعد أي حدث سياسي معاصر يجري من دون علمه، أو ضد إرادته. وبهذا أصبح الهجوم على خطيب كاتدرائية سان بيار في جنيف، بالخطورة ذاتها تقريبا التي يشكلها التهجم على القيصر أو البابا.